Saturday, May 14, 2016

إيران والمشروع الحضاري الإسلامي البديل (الجزء الثالث)


الصورة مأخوذة من موقع عرب تايمز " مراكش تايمز .
أحمد الشرقاوي
خاص: بانوراما الشرق الأوسط
معضلـة الخـلاف “السنـي – الشيعـي..
من أبرز العقبات التي تقف في وجه المشروع الحضاري الإسلامي الجديد الذي تعمل عليه إيران اليوم، مسألة الثنائية المذهبية “السنية – الشيعية”، لأن ما هو قائم من اختلاف في وجهات النظر حول أمور عديدة لا تتعلق فقط بالطقوس والشعائر والفروع في مجال الشريعة كما يزعم البعض، بل تطور الاختلاف إلى خلاف حول الأصول والمبادئ والقيم لتبرير التكفير والقتل وإلغاء الإحساس بالإنسان كقيمة بالرغم من أن الله كرّمه وجعله مركز الكون وقدس المُقدّسات..
هذا علما أن الخلاف تاريخي، ومنشأه سياسي لا ديني، برز زمن الفتنة الكبرى وتمحور حول من له الحق في توليّ إمامة المسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث على يد الخوارج.. إلا أن أصله الحقيقي قديم قدم التاريخ، لأن من يقارن اجتهادات فقهاء السلاطين بما ورد من سنن ربانية في ثنايا القصص القرآنية عبر العصور والدهور، سيلحظ دون عناء أن ما قام به هؤلاء السحرة زمن الأمويين والعباسيين والأزمان التالية وإلى يومنا هذا، لا يختلف في شيئ عن ما كان يقوم به سحرة فرعون الذين نزعوا الشرعية من الشعب والحاكمية من الله وحوّلوا الملوك إلى آلهة في الأرض.

وبرغم أن الرسل والأنبياء ثاروا على الملوك والكهنة وحاربوا ظاهرة “التألّه”، ورفضوا الشرف والثراء والحكم مقابل أن يتخلوا عن دعواهم، ونجحوا في إعادة الملك إلى مالك الملك الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، إلا أنه وبعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، انقلبت الآية وعاد الجدل من جديد حول من له الحق في الحكم نيابة عن الله في الأرض، فعاد زمن الفراعنة فينا من خلال أنظمة رجعية واستبدادية فاسدة، ألغت إرادة الشعوب وحوّلت الناس إلى عبيد والأوطان إلى سجون ومعتقلات كبيرة.
وإذا جاز لنا توصيف جوهر المعضلة التي تدفع الأمة ثمنها اليوم وتهدد وجودها ومستقبل أبنائها، نستطيع القول، أنه ومنذ ثورة الحسين عليه السلام وإلى يوم الناس هذا، تعيش الأمة الإسلامية منقسمة بين نوعين من الإسلام، إسلام الاستسلام والخنوع والانبطاح لأولي الأمر من الحكام الفاسدين الذي وضع أسس دولته الأولى معاوية بن أبي سفيان، وهو إسلام السواد الأعظم الذي ساد بفعل القهر والإكراه والتضليل والتدجين وإلغاء العقل وتحريم النقد والتفكير.. وإسلام ثوري وتقدمي على هدي النبوة، وضع أسسه الفلسفية الإمام علي عليه السلام فيما أصبح يعرف في الفكر الإسلامي بـ”الفلسفة النبوية” أو “علم القلوب”، وجسده واقعا على الأرض الإمام الحسين عليه السلام بثورته الإنسانية الشهيرة ضد الظلم والاستبداد والفساد، وميزة هذا الإسلام أنه يستمد أسسه الدينية وثوابته الإنسانية ومبادئه الأخلاقية من روح الجهاد بمفهومه الشامل كما حدده تعالى في القرآن، وكما جسدته سيرة نبيه الهادي الذي بعثه تعالى رحمة للعالمين عليه افضل الصلاة والسلام.. إسلام يضع في أولوية أهدافه تحرير الإنسان من الجهل والعبودية والاستبداد، وحثه على الدفاع عن النفس والأرض والمال والعرض والكرامة، ليسقط الظلم والفساد ويسود العدل والسلام في الأرض، مع ضرورة التمييز في الأسلوب بين مقاومة الظلم والفساد الداخلي بالطرق السلمية، ومقاومة العدوان الخارجي بالقوة العسكرية.
وليس أدل على الفارق الكبير بين الإسلامين اللذان نتحدث عنهما في سياق هذا المبحث، من موقف الحكومات “السنية” من قضية “الجهاد”، والذي تجلى في أبشع صوره الفاضحة من خلال القرار الذي اتخذته منظمة المؤتمر الإسلامي لإسقاط فريضة الجهاد من جدول أعمالها خلال مؤتمر دكار (السنغال) سنة 1991، هذا علما أن المنظمة أسست رسميا عام 1971 بداعي الدفاع عن شرف وكرامة المسلمين، بما فيها القدس والمسجد الأقصى، وذلك في أعقاب حرق يهودي متطرف للمسجد الشريف سنة 1969 كما هو معلوم، وانتظام الدول الإسلامية في أول اجتماع تشاوري لهم على مستوى قيادات الأمة بالرباط (المغرب) لتدارس سبل مواجهة الكيان الصهيوني المحتل، وقد جاء قرار إسقاط فريضة الجهاد من أجندة المؤتمر وفق ما أكدته الأحداث لاحقا لسببين رئيسين:
* الأول، خوف الأنظمة العربية العميلة من أن تتأثر الشعوب العربية والإسلامية بروح الثورة الإسلامية الإيرانية الجهادية والتقدمية فتنطلق جحافل المجاهدين من كل أصقاع الأرض نحو فلسطين، خصوصا بعد أن جعل الإمام الخميني (ق.س) من شعار تحرير القدس الشريف ونصرة الشعوب المستضعفة والاستثمار في بناء الإنسان المسلم العالم القوي والقادر أهم رهانات الثورة من أجل وحدة ونهضة المسلمين في عالم لا يرحم الضعفاء.
* الثاني، ضرب روح الجهاد في الأمة ضدا في سنة التدافع الإلهية، بذريعة الأوضاع السياسية والأمنية والإستراتيجية التي كانت تمر منها المنطقة نتيجة غزو الرئيس صدام حسين للكويت صيف عام 1990، الأمر الذي مهد لطلب النجدة من قوات التحالف الدولي الأمريكي الذي شن حربا طاحنة أدت إلى تدمير العراق دولة ومؤسسات وشعب وتاريخ وحضارة، بناء على فتوى أصدرها آنذاك مفتي الديار السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز، تجيز الاستعانة بالجنود الأجانب “الكفار” ضدا في نصوص قرآنية ووقائع من سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، تحرم طلب نصرة غير المسلمين لمحاربة المسلمين، ما يؤكد أن الهدف لم يكن تحرير الكويت الذي كان بإمكان “السعودية” إنجازه بإقامة تحالف عربي وإسلامي وفق ما تقتضيه الشريعة، بل كان الهدف تنفيذ أجندة أمريكية – أطلسية – صهيونية لتدمير العراق كمحطة أولى تتبعها سورية فحزب الله ثم إيران، لما تمثله جيوش ومقاومات هذا المحور من خطر استراتيجي ووجودي على “إسرائيل” والأنظمة العربية العميلة وعلى رأسها قرن الشيطان في شبه الجزيرة العربية.
وما قامت به “السعودية” مؤخرا من محاولة مستميتة لإنشاء تحالف إسلامي لمواجهة إيران ومحو المقاومة، لدليل واضح على هذا النهج التخريبي الخطير الذي يستهدف الإسلام وأمة محمد، الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هم ‘آل السعود’ والأنظمة العربية الدائرة في فلكهم هو أمن “إسرائيل” واستقرارها لأنه ضمانة لاستمرار عروشهم وظلمهم وفسادهم، خصوصا بعد أن رفضت أمريكا الدخول في مواجهة عسكرية مع محور المقاومة في سورية خوفا من أن يؤدي ذلك لانفجار المنطقة وحرب عالمية ثالثة لا يعرف أحد خطورة نتائجها.
لكن المفارقة، أن قرار إسقاط الجهاد من أجندة الدول العربية والإسلامية، أحدث انقساما خطيرا داخل التيار الوهابي نفسه، بحيث أفرز الانقسام ما أصبح يعرف اليوم بتيار “السلفية الجهادية” بسبب الخلاف الفقهي الحاد الذي انفجر عقب قرار “السعودية” سد باب الجهاد والتعويض عنه بالاستعانة بـ”الكفار” لمحاربة الجيش العراقي المسلم، فتم رفع شعار “الحاكمية” كما حدث زمن الخوارج لتصحيح هذا الانحراف الخطير، الأمر الذي أدى إلى تمرد السلفية الجهادية على ‘آل سعود’ فخرج مارد الإرهاب من القمقم حيث كفّر ‘آل سعود’ وأعلن محاربته لهم وقام بتفجيرات إرهابية داخل المملكة لأول مرة.
وبالتالي، هذه الواقعة التاريخية التي لم تحظى بما يلزم من دراسة وتدقيق، هي التي أدت لظهور عصر الإرهاب المنفلت من العقال بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، حيث تحول من كانوا يسمون بالمجاهدين العرب إلى جهاديين ضد الغرب والأنظمة العربية العميلة في عهد بن لادن، وهو الأمر الذي استفادت منه أمريكا و”إسرائيل” أيما استفادة، فاستثمروا في تحويل بوصلة الإرهاب لمواجهة الإسلام المحمدي الثوري الأصيل الذي تمثله إيران ومحورها المقاوم والممانع، لإشغال “الجهاديين” في حروب عبثية لتدمير الذات، وإبعاد خطر الصحوة الإسلامية من أن يطال الأنظمة العربية العميلة لهم، كما وسرقوا ثورات الشعوب ووجهوا بوصلة الانتفاضات الشعبية خلال ما عرف بالربيع العربي ضد الأنظمة الجمهورية بدل الملكية، من خلال استراتيجية “الفوضى الخلاقة” التي نعيش تداعياتها اليوم على امتداد جغرافية الوطن العربي، والتي تؤكد المعطيات أنها لن تستثني الأنظمة الملكية أيضا حين ينتهي دورها الوظيفي، في ظل التشرذم الذي تعيشه الأمة بدل التكتل والتعاون لمواجهة هذا المشروع الخطير الذي يهدد الأمة بمزيد من التقسيم والتطاحن لمنع أية إمكانية لوحدتها ونهضتها، وهذا ما لا تفهمه الشعوب العربية في معظمها – ويا للأسف – بسبب الجهل والتخلف والتضليل الإعلامي غير المسبوق.
وفي ذات السياق، يمكن فهم قرار ‘آل سعود’ تصنيف حزب الله في خانة الإرهاب، وهي حلقة من مسلسل قديم جديد، هدفه الأساس القضاء على مكامن القوة في الأمة، والمتمثلة في الجهاد الحق والمقاومة الشريفة، وهو مسار لن ينتهي بالحوار بين إيران و”السعودية” كما يعتقد البعض، لأن حقيقة الصراع ليس دينيا أو مذهبيا “سنيا – شيعيا” كما يحلوا للبعض أن يسوق له، وإن كان ذلك يمثل حلم ” إسرائيل” ورغبة أمريكا، بل الصراع هو كما حدده الإمام الخميني (ق.س) بين الشيطان الأكبر وأدواته الإقليمية من جهة، والإسلام الثوري المحمدي الذي تمثله إيران ومحورها، أي أنه صراع حضاري بامتياز، من طبيعته أن لن ينتهي بالحوار، بل بانهيار حضارة وصعود أخرى كما تؤكد ذلك سنن الله في الخلق، لينتصر الحق على الباطل مهما طال الزمن وكلف الأمر من تضحيات.
*** / ***
وبالتالي، فالدارس للتاريخ الديني والسياسي للعالم العربي والإسلامي، خصوصا ما له علاقة بالصراع الإديولوجي والمذهبي، سيصل حتما إلى خلاصة مفادها، أنه وبحكم هذا الواقع الرديء الذي فرض على الأمة زمن الفتنة الكبرى، تطور الاجتهاد الديني نحو مزيد من التعقيد بسبب البعد عن التقوى الدينية والموضوعية العلمية معا، بحيث تحول الدين إلى سلاح في خدمة أهداف سياسية انتهازية، وزاد الطين بلة قيام الحكام باستغلال شعار تطبيق “شرع الله”، بهدف استقطاب الأتباع والمناصرين من العوام من مدخل نظرية الخليفة الثالث التي تقول “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، وهي النظرية التي استغلها معاوية بن أبي سفيان أسوء استغلال في سبيل الاستحواذ على السلطة، وأسس على ضوئها ما أصبح يعرف في التاريخ الإسلامي بـ “أهل السنة والجماعة” لنزع شرعية الإمامة عن الإمام علي عليه والسلام وضرب شيعته الذين اضطهدوا وهربوا بعقيدتهم نحو مختلف الأمصار والتزموا التقية حفاظا على أرواحهم من الهلاك.
وعلى سنة معاوية، لا زال فقهاء السلاطين اليوم يتلاعبون بعقول المسلمين ويغذون المجتمعات الإسلامية بالنعرات الطائفية، ويصرّون على تجهيل الناس وتضليلهم بكل السبل الممكنة والمتخيلة لدفعهم للتقاتل من أجل أن يسود الظلم ويتأبّد الفساد ضدا في شرع الله الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّما بين عباده، وآذن الفاسدين والمفسدين في الأرض بحرب لا هوادة فيها وبنصرة المستضعفين من عباده المخلصين وتوريثهم الأرض وما عليها إن هم أخذوا بعقيدة الجهاد الحق التي تعني العمران البشري من بناء للإنسان والحضارة، وقتال الأعداء دفاعا عن النفس حصريا، ووضع قوانين المدافعة الحتمية في سُننه الأزلية الناظمة للكون والخلق.. وبالتالي، فالمعيار الأساس لتقييم أي نظام حكم في الأرض هو العدل، وفي حال انتفائه لا يمكن تبرير شرعية أي نظام سياسي مهما ادعى من تقوى وصلاح بالخطاب.
وعلى هذا الأساس فالحل لمشاكل الأمة لا يكمن في تطبيق شريعة الفقهاء ضدا في عدل الله كما ينادي اليوم أصحاب الدعوة إلى عودة نظام الخلافة الاستبدادي، لأنه إذا كانت الأرضية المشتركة التي ينطلق منها الجميع لفهم الدين هي القرآن الكريم بالدرجة الأولى، فإن الاختلاف في مجال الاجتهاد نظريا حسب ما ورد في المذاهب الكبرى لا يتعدى نسبة 2 % فقط على أكبر تقدير، قياسا بـأقل من 5 % من الآيات التي وردت في القرآن الكريم في مجال التشريع تحديدا، في حين أن هناك ما يزيد قليلا عن 95 % من آي القرآن الكريم ترك للتلاوة من باب التبرّك بدل التدبّر والفهم العميق، ونقصد بذلك ما له علاقة بسنن الله في الكون والخلق، وهو علم رباني عظيم لم يحظى باهتمام فقهاء الشريعة في الإسلام لأنهم غير مؤهلين لذلك بسبب ضعف تكوينهم العلمي ومحدودية رؤيتهم لله والإنسان والعالم، وعدم فهمهم للإسلام ولرسالة القرآن التي تضمنت كل الرسالات السابقة، وسعيهم الدؤوب لاختزال الدين والحياة الإنسانية في منظومة “أهل السنة والجماعة” وإقصاء ما سواها، وهي المنظومة التي تحوّلت بفعل الدّسّ والتحوير والتزوير إلى “شريعة إسلامية”، باستثناء قلة من العلماء الجهابذة الذين تناولوا موضوع السنن الإلهية بشكل عرضي في إطار بحوث مركزة، ويعتبر العالم بن خلدون الوحيد الذي كرس حياته وعلمه لهذا المجال العظيم من مجالات المعرفة والحكمة.
والمفارقة أنك لن تجد فقيها أو داعية “سنيا” إلا ويحدثك عن مزايا الوحدة وفوائد الاتحاد، ويقول بضرورة أن يجتمع المسلمون على كلمة سواء عملا بقوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويدّعي أن الاختلاف بين السنة والشيعة هو في بعض الطقوس والشعائر والأحكام فقط، وأن هناك إجماع على الأصول والثوابت والمبادئ.. لكن بعضهم حتى لا نعمّم، ما أن تصدر التعاليم السلطانية لأسباب سياسية إلا وتراهم يسارعون إلى تغيير خطابهم والقول بتكفير “الشيعة” ووسمهم بالمجوس والرافضة وما إلى ذلك، ضدا في العقل والمنطق وخطاب السماء، وهذا لعمري قمّة النفاق.
وأصل المسألة يعود إلى أن فقهاء السلاطين يلتزمون بمنهج النقل واتباع سنن السلف الذي لم يكن كله صالحا، واضطرار علماء كبار كالمعتزلة مثلا لاعتماد منهج التأويل استنادا إلى أدوات العقل في البحث عن المعنى المراد من كلام الله لدحض أقوال فقهاء أهل السنة والجماعة، وفشل الأشاعرة في التوفيق بين الفريقين، وهو السبب الأساس الذي زاد من حدة الخلاف بين المسلمين بسبب حاجة كل فريق إلى سلاح الدين لمواجهة الفريق الآخر، وتم تأويل المحكم والمتشابه كل من وجهة نظره للتأسيس لشرعية مقولاته وإسقاط مقولات الفريق المخالف، فنشأ من ذلك علم الكلام الذي لم يجمع المسلمين على كلمة سواء بقدر ما فرقهم إلى طوائف ومدارس وملل ونحل شتى، كلّ يُروّج لمقولاته باعتبارها الحقيقة المطلقة دون تفريق بين الدين والفهم الديني، بين المطلق والنسبي، بين الإلهي والتاريخي، وهو ما تفطن له البعض اليوم فقاموا بإحياء “علم الكلام الحديث” كالعالم الإيراني الدكتور ‘عبد الكريم سروش’ صاحب نظرية “القبض والبسط النظري للشريعة” التي أحدثت ثورة معرفية كبيرة في هذا الباب، من شأنها معالجة تداعيات ما أحدثه علم الكلام القديم من تفجير للصراعات الإديولوجية التي تحولت إلى صراعات عبثية وحروب غبية على امتداد التاريخ الإسلامي الدموي، وما نشهده اليوم من ظواهر تكفيرية وفتن مستعرة وحروب تدميرية، هو بسبب استغلال هذا الخلاف القائم بين الدين باعتباره يمثل الحقائق الإلهية المطلقة وبين الفهم الديني الذي هو فهم نسبي ذو طبيعة بشرية لا يمكن أن يرقى إلى الحقيقة المطلقة حتى لو أسدل عليه رداء القداسة، وإن كانت الأهداف في المحصلة سياسية بامتياز.
*** / ***
وليس غريبا والحال هذه أن تنفذ أمريكا وإسرائيل إلى أمتنا من بوابة هذا الخلاف التاريخي تحديدا لتدمير دولنا وتفتيت مجتمعاتنا وضرب مكامن القوة فينا كي نعيش مدى الدهر عبيدا لا أسيادا، بدليل أن ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر سبق وأن بشرنا قبل فترة بحرب دينية “سنية – شيعية” تدوم لعقود، وهو المدخل الذي يركز عليه أعداء الأمة، حيث جدّدوا التأكيد خلال المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في أبريل 2015 في “هرزيليا” على جملة توصيات كان أبرزها “ضرورة العمل على تغذية الصراع السني – الشيعي”، وهذا يعني بالواضح الفاضح أن الصراع المذهبي هو السلاح الأمضى الذي يمكنهم من خلاله تحقيق أهدافهم السياسية الخبيثة.
صحيح أن الحرب الطاحنة الدائرة اليوم في المنطقة ضد محور المقاومة والممانعة لم تتحول إلى حرب “سنية – شيعية” كما خطط لها، برغم محاولات “السعودية” وقطر وتركيا الاستثمار في هذا المنحى المدمر من خلال تجنيد وتمويل وتسليح الإرهاب التكفيري تحت شعارات مضللة تستدعي مقولات زائفة من قبيل مظلومية “السنة”، لإعطاء الانطباع بأن العدو هو إيران وشيعتها بدل أمريكا و”إسرائيل”، لكن ما يحصل اليوم من مآسي في عالمنا العربي يفوق كثيرا بنتائجه الكارثية كل ما عرفته المنطقة من حروب على امتداد تاريخها، ويجعل من دعوات الحوار “السني – الشيعي” التي ترفعها إيران وبعض المخلصين من الغيورين على وحدة ومصير الأمة عبارة عن صرخة في مقبرة لا يصل صداها إلى الأموات.
لأن من لا ضمير له من القادة كائن ميت يقود شعبه إلى الكارثة، ومن يمشي في الأرض بغير نور الله وهداه من النخب هو أضل سبيلا، وحين يكون الجهل والغباء هما السّمتان اللتان تميّزان مجتمعات الدهماء والرعاع في العالم العربي فلا يمكن الحديث عن شيئ اسمه “أمـة المؤمنين”، لأن من شروط حمل أمانة الرسالة السماوية أن يكون الإنسان مؤمنا عارفا قويا وقادرا على العمل والإبداع لصناعة حضارة تليق بتكريم الله له على بقية المخلوقات، لا مسلما ضعيفا مُستسلما ومستكينا يعيش على هامش التاريخ وعالة على الحضارة.
ملحوظة:
سنخصص الجزء الرابع إلى إشكالية الحوار السني الشيعي واستحالة الرهان عليه في ظل وجود “السعودية” و”إسرائيل”، في ما سنخصص الجزء الخامس والأخير إلى قضية سنن الله في الخلق، لنبني عليها تقديراتنا لمآلات الصراع في العالم العربي والإسلامي، والذي يبدو أنه يتطور وفق قوانين صارمة تعجز القوى المتصارعة عن التحكم فيها، ما يؤشر إلى أننا أمام مقدمات لصراع طويل وانفجارات قادمة تبدو حتمية لتعيد تشكيل المنطقة والعالم على أسس جديدة سيكون لمحور المقاومة والشعوب الواعية كلمة الفصل فيها.

No comments:

Post a Comment