بقلم حسن شقير
فجأة وبدون مقدمات
، قرر الرئيس الروسي سحب الجزء الرئيسي من قواته العاملة في سوريا منذ الثلاثين من
سبتمبر الماضي ، وذلك بعد تحقيق معظم أهدافها الرئيسية هناك ..
سيجادل كثرٌ حول الدوافع
والأسباب لهذا الإعلان – الحدث ، وسيُحمّل هذا القرار الروسي – ربما – الكثير الكثير
من التأويلات ، وعلى مختلف الأصعدة ..
صحيحٌ أنه من المبكر
الغوص في حيثيات هذا القرار ، ولكن منطق التحليل السياسي ، يمكن أن يُساعد في قراءة
ذاك التطور المفصلي – غير المتوقع في توقيته – ، وذلك بعكس قرار التدخل منذ حوالي الخمسة
أشهر والنصف ، والذي كنا قد بشرّنا بإنطلاقه في السابع عشر من آب الماضي ، وذلك ضمن
مقالة ( جرس الإنذار ، أم سهمٌ ذهبي مضاد ؟ )
السؤال البديهي: ما
الذي جعل بوتين ، يتخذ هذا القرار الأخير؟ فهل فعلا ً، أنه قد تخلى عن سوريا ، وذلك
حسبما بدأت تروج له بعضٌ من وسائل الإعلام، وذلك منذ الدقائق الأولى لتلاوته لبيانه
!! وهل أن ذلك يعود حقاً إلى خلافات روسية – سورية وإيرانية ، حول المرحلة السياسية
من خريطة طريق روسيا لحل الآزمة في سوريا؟ أم أن هذا القرار ، قد أتى على خلفية طبيعية
، لما كان قد أحدثه التدخل في المشهد السوري من تبدلات وتحولات استراتيجية هناك ؟ وبالتالي
، فإن ما ذكره بوتين حول ” تحقيق الأهداف ” لهذه العملية ، لهي حقيقةٌ قائمة ، وبالتالي
فإن محاولة تلمس البعد الجوهري لهذا القرار ، يمكن أن نرصده على الشكل التالي :
في الحقائق :
– أولا ً : التدخل الروسي في سبتمبر الماضي ، دفع
أمريكا وتحالفها في المنطقة إلى أحضان خريطة طريق روسيا لحل الأزمة في سوريا ، وتبني
هؤلاء لمراحلها الثلاث ، والتي عرضها لافروف ضمن الإجتماع الرباعي في أواخر أكتوبر
الماضي على وزراء خارجية أمريكا وتركيا والسعودية ، وذلك بتبنيها من قبل مشاركي مؤتمر
فيينا ١ ، والتي تتضمن فصل “المعتدلين” عن الإرهابيين ، والإنقضاض على هؤلاء ، ليتزامن
ذلك مع بدء المسار السياسي ..
ثانياٍ : عملت روسيا
، ومن خلال تدخلها على قلب “عقيدتي” أمريكا والإرهابيين على حد سواء ، فالبنسبة للأولى
، فإنها ، وضمن ما كانت تقوم به من استثمار بالإرهاب ، الذي ادعت محاربته ، وذلك ضمن
التحالف الذي شكلته ، إلا ّ أن تلك ” العقيدة ” الإستثمارية ، سرعان ما فُرض عليها
التحوّل نحو ” الوراثة الجغرافية ” له ، وذلك خوفاً على المصالح الأمريكية في سوريا
، فيما لو قُدّر لأمريكا بألا تنتقل مرغمة ً نحو وراثته .. أما أولئك الإرهابيين ،
فلقد فرض عليهم التدخل الروسي المتكامل مع التحالف الأمريكي الجدي هذه المرة ، بالإنتقال
من التقاطع مع مستثمري الإرهاب إلى الوقوف بوجههم .. وهذا بحد ذاته تطور كبير .
ثالثاً : لقد حقق
التدخل الروسي في سوريا ، وخصوصاً في أواخر شباط الماضي ، مع إعلان ” وقف العمليات
القتالية ” الساري المفعول حالياً ، ثلاثٌ من الإنزياحات الإستراتيجية المهمة جداً
، وهي إنزياحات فتيل الحرب الشاملة ، وذلك بوأد التدخل التركي – السعودي في سوريا ،
وانزياحات التهجير القسري المفروض على الجماعات المسلحة ، بالإنتقال من التطرّف إلى
الإعتدال ، والتي كانت قد لعبت امريكا دوراً مهماً في ذلك ، والهدف الأمريكي كان تشكيل
نواة ” جيش سوريا الجديدة ” ، وذلك لموازاة قوة الجيش السوري ، في وراثة الجغرافيا
من الإرهابيين .. فهل يأتي الإعلان عن بدء المفاوضات اليوم في تركيا ، حول تشكيل ”
قيادة عسكرية موحدة ” للمعارضة المسلحة ، ضمن هذا السياق ؟ ، أما ثالث الإنزياحات ،
فهي تتعلق بخرائط القتال في الميدان ، والتي بدأت تتخذ وجهة واحدة نحو التنظيمات الإرهابية
، وبشكل حصري ، وقد ألمح لافروف حول الحديث مع أمريكا حول التكامل في اجتثاث الإرهابيين
، بحسب التجاور الجغرافي لمناطق سيطرتهم ( الرقة وتدمر ) ( هذه الإنزياحات وردت في
مقالتي المنشورة في 24-02-2016 ، وذلك تحت عنوان : إتفاق وقف العمليات القتالية ..
بنودٌ بأبعادٍ مفصلية )
في الممنوعات :
أولا ً : عدم السماح
بالعودة بخرائط الميدان الإرهابية ، إلى ما كانت عليه قبل الثلاثين من سبتمبر الماضي
، وذلك يفسر ما تم اعلانه حول التعهد الروسي باستمرار الدعم للدولة السورية في مواجهة
الإرهاب ، وذلك حين الإعلان عن قرار الإنسحاب .
ثانياً : عدم السماح
بتحريك خرائط الميدان بين الجيش السوري من جهة ، وفصائل المجموعات المسلحة الملتزمة
بالهدنة ، وذلك حفاظاً على المبدأ الوارد في القرار الدولي ٢٢٦٨ ، والمتعلق ” بعدم
كسب أراضٍ جديدة ” ، ويتزامن ذلك مع الإستمرار بتثبيت معادلة وراثة الإرهاب من قبل
هذين المكونين ، وذلك وفقاً لمبدأ التجاور الجغرافي على الدوام .
ثالثاً : عدم السماح
بانفراط عقد العملية السياسية التفاوضية الحالية ضمن مسار جنيف – وإن تعثرت أحياناً
– ، وذلك تحت ضغط التلويح بسحب الملف من الأيادي السورية – السورية ، إلى مجلس الأمن
، وذلك وفق ما حذّر منه ديمستورا ، مع انطلاق فعاليات جنيف 3 .
في التوقعات :
يبدو أن مسارات التطورات
المتسارعة في المشهد السوري ، والدينامية الجديدة التي تتحرك من خلالها هذه الآزمة
، تشير إلى أن استحالة عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل التدخل الروسي في سوريا ،
وآن ما ذكرته في مقالة ( ما بعد وراثة الإرهاب .. سوريا إلى أين ) ، حول ميل الأطراف
المتحاربة فيها إلى سلوك استراتيجية ” التحرّف للقتال “على جميع الجبهات المُهادنة
اليوم ، لهو المتوقع في المدى المنظور ، وبالتالي فإن ذلك سيجعل من التوازن العسكري
المتقابل في الجغرافيا السورية ، إمّا مُدخلا ً لإستعار حرب متجددة في سوريا بين وراثي
الإرهاب فيها ، وذلك على شاكلة حرب وكلاء جدد ، وهذا بحد ذاته ليس مرغوباً عند روسيا
وإيران ، فضلا ً عن المقاومة والجيش السوري .. وإمّا يكون ذاك التوازن العسكري ، مدعاةً
للتوافق المحتوم والمفروض بضغط شعبي ، والذي يكون قد ذاق حلاوة استعادة بعضٍ من الأمان
في ربوعه ، وهو بالتالي سيرفض الإحتكام مجدداً إلى لغة السلاح ، ناهيك عن احتمال بدء
المسار العمراني من مسارات ديمستورا الأربع ، وذلك متزامناً مع مساريه العسكري والسياسي
أيضاً .
خلاصة القول ، إذا
كان لآثر قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا ، تثبيت الدولة الوطنية السورية ، ومنع
انهيارها وتفككها ، فإن قرار سحب ذاك التدخل اليوم ، لا يمكن له أن يكون تنازلا ً عن
ذاك الهدف أعلاه ، وذلك لما نكرره دائماً بأنه مصلحةٌ روسية قبل أن تكون سورية ، وإذا
كان فرض خريطة طريق الحل الروسية في سوريا ، وقبول أمريكا وتحالفها مرغمين على مراحلها
( وتحديداً في مرحلتيها الأوليتين ) ، فإن قرار السحب ، والذي أتى متزامناً مع إطلاق
المسار التفاوضي في فيينا ( المرحلة الثالثة من خريطة الطريق ) فإنه يُعبّر عن رسالة
روسية مزدوجة إلى طرفي الأزمة على حد سواء، بأن مصير سوريا ، لهو رهنٌ بين أيديكم وحدكم
، ودون كسرٍ وغلبة ٍ لفريقٍ منكم على أخر … المصدر : بانوراما الشرق الأوسط
باحث وكاتب
سياسي بيروت في
15-03-2016
No comments:
Post a Comment