الشاعر علاء كعيد حسب ، رفقة الناشط الحقوقي محمد كوحلال
قراءة عميقة
لشاعر العراق الكبير و الأكاديمي المتميز د.سعد ياسين يوسف
من المؤكد أن للنقد أهميته
المستديمة في فضاءات الكتابة الأدبية في إطار سعيه لاكتشاف جوهر الإبداع ومكنوناته
التي يتشكل منها النص الأدبي المراد نقده وتحليليه برؤية إبداعية.
وليس خافيا على المشتغلين
في حقل النقد الأدبي،أن كثرة النظريات النقدية التي اعتمدت، أغرقت التصدي للنتاج
الأدبي بعمليات التنظير ومدى مطابقة هذا النص لهذه النظرية أو تلك، دون الغور
الحقيقي إلى جوهر النص وروح مبدعه والذي لا يتطلب أن نمسك بمسطرة النظريات لنقيس بها
طول وعرض النص الإبداعي المراد نقده، بل إن كل ما نحتاج إليه هو التواصل مع جوهر
النص وروحه وإلى التبصر بمدلولات النص الأدبي، وليس بإثقاله بنظريات قد لا تتلائم
ومخرجاته الفكرية أو الدلالية، فيغدو النص مشوها متسربلا بمعطف فراء في لجة القيض،
أو العكس عاريا في صقيع الشتاء القاتل ...وبذلك نلغي الهدف الحقيقي للنقد ونحوله
إلى مجرد أداة قياس جاهزة فيها الكثير من
انحراف النتائج، لا لشيء سوى إن المُقاس مائع ومتحول كالروح لا ينطبق عليها ما
ينطبق على الثابت.ولذلك يذهب (هارلو بلوم ) إلى هذا المعنى حينما يقول في كتاب (مفارقة
الحداثة ) "إن الصعوبة التي تصاحب نظرية النقد هي أنه مثلما لا توجد معايير
محددة للشعر، لا توجد معايير للنقد أو ربما كان النجاح هو المعيار الوحيد".
وللدخول إلى ( ثريا النص )
على حد توصيف ( جيرار جينيت ) النص الذي نحن بصدد دراسته والمتمثل بمجموعة (علاء
كعيد حسب )الشاعر المراكشي (تعبت و لدي
رغبة في الهدوء) التي صدرت في المغرب بحدود 80 صفحة من الحجم المتوسط.
و ضمت 16 نصا شعريا، سأنحى في استجلاء مكنوناته معتمدا على ما
يثيره فيَّ النص من ارتدادات موجية وأنا أوغل بفضاءات نصوص المجموعة، دون تطويع
النصوص وقسرها على رؤى تبعدها عن حقيقة نشأتها والباعث الحقيقي لكتابتها، بالرغم
من أن تعدد القراءات في العمل الإبداعي، وليس الشعر وحده، إنما تمنحه تميزا وتزيد
من فاعليته عند جمهور المتلقين.
فمذ الإحالة الأولى
للعنوان (تعبت و لدي رغبة في الهدوء )الذي هو عنوان لإحدى قصائد المجموعة مع إبدال
بسيط لمفردة (منهار) إلى ( تعبت ) نقف على
درجة عالية من التوتر الشعري الذي تصعد
موجته عاليا لتنزل معلنة أن الشاعر كان في رحلة من الاكتشافات المؤلمة والتي قادته
في النهاية إلى تلك الرغبة التي تجاوزت رغبته بالفرح والاحتفال بالانتصار إلى
الإحساس بإحباط شديد من جراء ما رأى في رحلته الحياتية التي سعي للحصول فيها على
إجابات لأسئلةٍ لطالما شغلته، لكنه يسعى إلى تلوين ذلك الهدوء بالأمنيات، بحلم
صبية تمسح الندى عن وردة ناعمة.
" تعبت..
و لدي رغبة في
الهدوء
في قليل من
الاسترخاء.
لو أجدني بحلم
صبية
تمسح الندى عن
وردة ناعمة"
وتقودنا قصيدته ( على مهل
أمشي ) التي أفتتح بها قصائد المجموعةبكل وضوح إلى لغة تخرج عن محتواها كلغة بحته
إلى لغة تشكيلية يرسم من خلالها الشاعر اللوحة التي يريد، ليوصلنا إلى صورة إحساسه
بغربة روحه وبطعم الفجيعة وبعدم جدوى وجوده حينما يقول:
" على مَهَلٍ
أَمشي
طَرِيقِي كَأسلاَفِي
خَطيئَةٌ
و خُطَايَ من نار..ٍ"
إنها اللاجدوى التي يعيشها
كل يوم تحت وطأة الإحباط المتكرر، ليؤكد فيما بعد مدى هشاشة الحياة وبؤسها وخوفه
من الآتي حينما يقول:
" مصيري على
جناحِ بعوضةٍ
أهزهُ
من الأحرُفِ الناقصةِ في
عناوينِ البريدِ "
وفي قصيدة (ليس للقصيدة
وطن )ندرك حجم الغربة التي يعيشها الشاعر مع نفسه والتي عبرَّ عنها جليا بهذه
القصيدة، وكأنما استعارها استعارة لفظية لتنعكس دلالات مضمونها عليه هو، فهو - أي
الشاعر- ليس له وطن محدد..فلا وطن مع الغربة حتى وان كان في وطنه الجغرافي :
" ليس
للقصيدةِ وطنٌ
أو نشيدٌ
تُلَمْلِمُهُ الأبجديةُ
من الحناجرِ
ليسَتْ منفىً
يؤمُهُ نساكُ
الغيابِ
بين كأسٍ
و كأسٍ..
ليس للقبلةِ
طعمُ الشفتينِ
أو نكهةُ الندى على
الياسمينِ "
انه يُسقط غربته حتى على
القُبلة ، فهي مثل القصيدة لا وطن لها .. وهنا تتصاعد جماليات الإحساس بالغربة لدى
الشاعر إلى أعلى مراحل ذروتها حينما يصل احساسه بها إلى البحر فيقول:
" وليس
للصحراءِ نهدٌ يحضنه البحرُ ،
بقُوةِ البحرِ
"
وهكذا تتوالى مقاطع
القصيدة معبرة عن غربته بأشكال وصور عديدة مماثلة لتعكس مدى حزنه على أخيه ( وسام ) ومدى تأثير فاجعة
فقده عليه وما شكلته من قضية ضياع مهمة
بالنسبة له، كيف لا وهو من شهد موته وأغلق جفنيه بيديه:
" ليس للساعةِ _هذه الساعةُ_
ضفائرُ أمي
أو مَخَادِعُ
يرقد فيها الزجاجُ
كعيني أخي
ليسَتْ واقعيةً
بما يكفي
لأعيدَ الفصول
إلى دَورتها الدائرة..ِ
إلى أولِ طقسٍ "
إنه الحنين إلى زمن ما قبل
الفقد، ولهذا فهو يسعى لعودة الفصول إلى دورتها الأولى حيث اللاحزن و اللافقد، فقد
استعار مفردة الزجاج ليعبر بها عن جمود عين أخيه من جراء الوفاة، والتي كان حاضرا
فيها بكل قوة الألم والتجربة المريرة.لكن الشاعر يحول الغياب إلى حضور ويمنح هذا
الحضور ملامح أخرى تندرج في إطار العودة في دورة حياة جديدة ألا وهي دورة حياة
الطبيعة، ولتخفف عليه وطأة الغياب.
وتعود تداعيات فقد أخيه
مرة أخرى في قصيدة(صراط العصفورة ... وسام الشمس ) مخاطبا إياه بلغة الوجع الممض:
" و
أنت وحدك
كالحب يسمو على
شموع الغواية
كأن روحك من نسج
الأفق
كأنك نهاية
الفضيلة
اختصرت عمر
الزهرة في قبلة
لتنتصر على
الذاكرة
على شرود الروح
عند السؤال "
ويبدو أن مفتاح فهم حزن
الشاعر وغربته ملقى في بئر قصيدته (للهواء رائحة الموت ) إذ يقول:
( انتظروك
طويلا.. قبل ولادتك
لتحمل رمزك
الجيني
و تجوب
الأعرق و الخيام
بحثاً عن
عيون والدك )
ويأتي المقطع التالي من
قصيدة (للهواء رائحة الموت) ليؤكد ما ذهبنا إليه حينما يقول :
" أنت
الآن و كتاباتك على شفيرِ الهاويةِ
أزلِ
الأجنحةَ التي نمت على ظهرك
و ارمِ أجمل
عباراتك في بالوعة الحرب اللعينة..
فلَسْتَ
محظوظا بما يكفي "
ولو عدنا إلى مفردة الحرب
التي قفزت هكذا فجأة من لا وعي الشاعر، لوجدنا أنها بكل تأكيد الحرب التي يعيشها
مع الذات والتي يعلن من خلالها استسلامه القدري منتفضا على نفسه وكأنه يريد أن
يعاقبها، للاجدوى أحس بها في لحظة وجوديه محبطة.
أنها محنة الهوية والوجود
والانتماء بكل وضوح، فعيون الوالد التي يبحث عنها هي وطن الشاعر الحقيقي والابتعاد
عنها يعني بكل تأكيد محنة الشوق للأصل إذن والذي عبر الشاعر عنه في رغبته الغامرة
في قصيدته ( العودة ) وبلغة مباشرة مبتعدا هذه المرة عن لغة المواربة في الكتابة
التي اعتمدها في قصائد المجموعة:
" سأعود
إلى بغداد
بعد أن يجف
لعاب المحتل
تحت الأشلاء
المتناثرة في المدينة
و سأخرج من
أرض هي أرضي
لأبحث بين
الحلم و اليقظة
عن صدى وطن "
هي العودة إلى نصفه الذي
يحمل لون عيني والده الذي حمل أمتعته ليعبر المسافات من بغداد إلى مراكش بحثا عن
وطن يجد فيه نفسه .. ولهذا فان الشاعر يرى نفسه بحاجة إلى إكمال صورة انتمائه في
وطن أحبه :
" تستفيق الحياة
في كنفه
كجنة انكشفت عن تراب
الجحيم..
سأعود بعد أن
أخرج
لينمو البرعم
المبتور "
غير أن الشاعر ببحثه عن
هوية الجذور لن يتنكر لأرض ولد وعاش عليها لكنه يشعر بان انتمائه أكبر من مجرد أرض
ولد عليها:
" كلما
تمدد الشروق
على نهد الرمال
سوف يحرسني
مثل جسد من
خطوات
وجهه فوق
الأطلس
و أطرافه مثل
الشهب
تخترق دجلة و
الفرات "
وتعود هذه المحنة لتطل
برأسها في قصيدة (بيني وبين الغمام) التي كان يناجي فيها جذره:
"بيني
و بينك
حضارات حملت
رمادها
إلى غرفتي
زينت ببعضها
غصن النارنج
اليتيم
و جعلت الباقي
نافدة يتسلل
منها النسيم.."
إنه التماهي بين هويته
وجذوره الممتدة إلى حضارات لم يحصل منها على شيء سوى رماد الأبوة الغائبة
والمرتقية إلى الذكريات التي تهب عليه كنسيم يتسلل من نافذة ذاته المثقلة بأسئلة
جدوى الوجود. وبعد حزن الفجيعة وما تركته لوعة الانتماء في الشاعر من تشرد فكري
وخلخلة في وجوده، نمسك بخيط آخر ونحن نسير على صراط العصفورة ألا وهو ذلك الخيط
الحريري الذي يلفه الشاعر على نفسه مرة لينتحر به ومرة ليحيا؛ ألا وهو المرأة. وأحيانا
هي الملاذ الذي يلجأ إليه قبل أن ينام كما في قصيدته (مجريات مسير):
"سأتذكرها
ليلا
قبل أن أنام
تلوح من خلف
الباب
بالسلام
و تسقي وسادتي
بابتسامة
و تترك بعشي زوج
حمام "
وهو بالرغم من حلمية نظرته
للمرأة، لكنها لا تخلو من حسية شفافة جميلة يعبر عنها بتصاعد لحني ليصل إلى صورته
المثلى فيقول:
" لم
أذكر كم من الوقت
أطالت بي النظر
لتأخذ لصدري
أخر مقاس
من دون علم
الناس،
و كم مرة شاهد
ظلها ما بقلبي
ونقل الخبر همسا
لباقي الحواس؟ "
لكنه ورغم كل شيء يظل
حزينا يبحث عن فرحه المهاجر في ظل امرأة ما عندما يقول:
" ابحث
عن ابتسامة
ضاعت خلسة
داخل الإطار "
وعموما فان الشاعر علاء
كعيد تميزت قصائده بلغة جميلة اشتغل عليها بوعي، ليؤكد أن الشعر هو الذي يؤكد جمال
وجدوى اللغة، وفق ما يقوله (هايدغر ) في كتابه في الفلسفة والشعر (يجب أن نفهم
ماهية اللغة من خلال ماهية الشعر ) فالمفردة بذاتها إنما تكتسب طاقتها الجمالية والتعبيرية
من طاقة القصيدة ذاتها كما في هذه الصورة:
"كُلمَا
تَأَخرت غيمةٌ عن موعدها
رافقتُ
السنابِلَ إلى الوادي
و صَلَيْتُ.."
أو كما في هذا المقطع الذي
يشكل فيه الشاعر صورة حزنه مانحا اللغة وهج القصيدةكما في قصيدة (على مهل أمشي ):
" كُلمَا كَشفت غِوَايَةٌ
سراً
رسمتُ في
الهواءٍ تفاحةً
و بَكَيْتُ
"
إن مجموعة قصائد (تعبت
ولدي رغبة في الهدوء) تظهر قدرة شاعر أمسكته الفجيعة، فأمسك بها شعرا جديرا
بالقراءة.


No comments:
Post a Comment