عندما يصل الاستبداد السياسي حد الاستهتار بالشعب: مشروع الدستور تم تعديله في اليوم الأخير لحملة الاستفتاء
السبت 30 تموز (يوليو) 2011
بقلم: حكيم الأندلسي
صدر بالجريدة الرسمية عدد 5956 بتاريخ 30 يونيو 2011، أي في اليوم السابق ليوم الاستفتاء، تعديل في مشروع الدستور المعروض على الشعب المغربي، تحت عنوان "استدراك خطأ مادي وقع في الجريدة الرسمية عدد 5952 مكرر"، وهي التي صدرت بتاريخ 17 يونيو 2011 وتضمنت الظهير المتعلق بعرض مشروع الدستور على الاستفتاء. ويتعلق هذا "الخطأ المادي" حسب تعبير الجريدة الرسمية بالفصول 42 و 55 و 132 من مشروع الدستور. والملاحظ أن هذا الأمر مر في صمت ودون أدنى تعليق من طرف المعنيين من صحافة وأحزاب وغيرها. وقد صدر بموقع الأمانة العامة للحكومة إخبار بصدور هذا "الاستدراك لخطأ مادي" في الجريدة الرسمية معتبرة أن هذا التصحيح تم في الوقت المناسب وقبل إجراء الاستفتاء...
تعديل جوهري وليس خطأ ماديا
ما يمكن ملاحظته على هذا الاستدراك من حيث مضمونه، على الأقل في النقطة الأولى، هو أن الأمر لا يتعلق ب"خطأ مادي" كما أسمته الجريدة الرسمية أو الأمانة العامة للحكومة، بل بتعديل جوهري لآلية تعيين رئيس المحكمة الدستورية التي تعتبر المؤسسة المسؤولة عن مراقبة دستورية القوانين والتي يمكنها إسقاط أي قانون أو أي اتفاقية دولية تعرض عليها إذا ارتأت أنها غير دستورية، كما أن أهمية رئيسها تبدو جلية إذا أخذنا في الاعتبار أن المحكمة الدستورية يفترض حسب مشروع الدستور أن تتشكل من 12 عضوا يعين الملك نصفهم كما يعين منهم الرئيس. وقد كان مشروع الدستور الذي عرض على الاستفتاء ينص على أن الملك يعين رئيس المحكمة الدستورية ويوقع معه رئيس الحكومة بالعطف على ظهير التعيين، إلا أن "الاستدراك" المذكور نزع صلاحية التوقيع بالعطف على هذا التعيين من رئيس الحكومة وترك الأمر بمجمله في يد الملك. وهذا ما تم اعتباره "خطأ ماديا".
يشكل الدستور – من منظور صانعيه - نتاجا لتوافق سياسي حاصل بين مكونات أي مجتمع، ينظم آليات الحكم ومبادئه العامة، كما ينظم العلاقة بين مؤسسات النظام، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم... وقد طبل النظام وزمر – وهذا ليس تعبيرا مجازيا فقد طبل وزمر بالفعل - لمشروع الدستور الجديد وقدمه على أنه نتاج تشاور وتوافق سياسي بين كل الأحزاب السياسية والمكونات المجتمعية، وذلك من خلال لجنة للفقهاء وآلية سياسية مرافقة، وبالتالي فهو- في منظوره – دستور ديمقراطي لأنه نتاج توافق سياسي. ولكن صدور تعديل في اليوم الأخير لحملة الاستفتاء على الدستور وبعد أن أنهى المجتمع نقاشه وعدد مزايا الدستور وعيوبه، والمكاسب المفترض أنها تحققت والسلطات التي تنازلت عنها الملكية لصالح رئيس الحكومة، هذا طبعا حسب منظور المطبلين للدستور الجديد، نقول أن صدور هذا التعديل الجوهري تحت مسمى "استدراك خطأ مادي"، وفي هذا التوقيت بالذات يسقط عن هذا الدستور ورقة التوت الأخيرة التي كانت، ربما، تستر عورته، ويبين أنه منتوج استبدادي بامتياز، وأن المسرحية الرديئة التي تم إخراجها بمساهمة الأحزاب السياسية المنبطحة في دور الكومبارس من أجل إضفاء مصداقية على العملية، هي مسرحية لم تنطلي ولا يمكن أن تنطلي على أحد، لأن لا أحد من هذه الأحزاب التي تمت استشارتها، حسب زعمهم، كانت لها الجرأة للاعتراض وقول لا مثلما فعل شباب وشابات حركة 20 فبراير، مثلما لم تكن لها الجرأة لتقدم استقالتها من دور الكومبارس الذي فرض عليها.
تعديل اللحظة الأخيرة
الملاحظة الثانية التي يمكن إثارتها في هذا السياق، هي أن هذا التعديل قد تم نشره في الجريدة الرسمية في اليوم الأخير لحملة الاستفتاء، أي أن أفراد الشعب من المفروض أنهم أنهوا مناقشة مشروع الدستور والتدقيق فيه، واتخذوا قرارهم بالتصويت بنعم أو لا أو بالمقاطعة على هذا المشروع في مجمله، بناء على تفاصيله وما تم تحقيقه من خلاله، من وجهة نظر كل واحد منهم. ومن المفروض أن الأحزاب الطامحة إلى رئاسة الحكومة تكون في هذا اليوم قد اتخذت موقفها وأقامت حملتها من أجل نعم أو لا أو المقاطعة، استنادا على الصلاحيات التي قد تكون بيد رئيس الحكومة المقبل، ومن بينها التوقيع بالعطف على ظهير تعيين رئيس المحكمة الدستورية، أي مشاركة الملك في تعيين الرئيس واعتبار التوقيع بالعطف شرطا لنفاذ ظهير التعيين، وبمعنى آخر التقليص من استفراد الملك بجميع الصلاحيات وخاصة الاستفراد بالتعيين في هذا المركز المهم والحساس.
ما معنى أن يتم تمرير تعديل من هذا النوع في مثل هذا اليوم، ونشره فقط في الجريدة الرسمية التي بالكاد يقرؤها القلة القليلة بعد أيام من صدورها؟؟ هل الأمر بهذه البساطة التي وصفت به: استدراك خطأ مادي؟؟ لقد عرض الدستور على الاستفتاء ككل متكامل، وهذا هو قانون الدولة الأسمى الذي سيرهن تاريخ المغرب لعقود قادمة، وأي تغيير في أي بند من بنوده أو تغيير لحرف من حروفه قد يغير في المعنى يجب أن يعرض على الشعب خلال مدة معقولة ليتخذوا قرارهم بخصوصه سلبا أو إيجابا، ولا يحق لأي كان أن يتعامل مع الشعب المغربي وفق مقولة "القانون لا يحمي المغفلين"، كما ورد في الإخبار المشار إليه أعلاه والذي يتحدث عن أن هذا "التصحيح" تم في الوقت المناسب أي قبل الاستفتاء، وليس مهما كم ساعة بقيت أو من وصل إلى علمه هذا التصحيح.
عندما يصل الاستبداد حد الاستهتار
ليس هذا الاستغفال سوى مثال بين عدة أمثلة، فعندما يبلغ الاستبداد في نظام من النظم أوجه، يصل به الاستهتار بشعبه مداه الأقصى، وهذا هو ما توضحه بجلاء كل فصول مسرحية الاستفتاء التي مرت. فما الذي يعنيه تمرير تعديل للدستور من هذا النوع وبهذا الشكل ودونما أدنى حرج؟ وما الذي تعنيه حملة للتصويت لأسمى قانون للدولة تقام بالتطبيل والتزمير (الغيطة والطبل بالدارجة)؟ وما الذي يعنيه استخدام الدولة لأصحاب السوابق الجنائية والمجرمين في حملة الدفاع عن مشروع الدستور في مواجهة حركة 20 فبراير التي قادت حملتها الداعية للمقاطعة بشكل حضاري؟ وما الذي يعنيه أن تخرج مسيرات حاشدة في عشرات المدن والقرى للمطالبة بجمعية تأسيسية لدستور ديمقراطي فيتم تعيين لجنة من طرف الملك لإنجاز مشروع دستور وضع هو خطوطه العريضة، ولا يعرض على الاستفتاء حتى يصادق عليه؟؟ وأي استهتار أخطر من أن يخرج الشباب للمطالبة بضمان الحق في الشغل والتعليم المنصوص عليه في الدستور القديم، فينص الدستور الجديد على صيغة ملتوية تتحدث عن "العمل على تعبئة الوسائل المتاحة لتيسير أسباب الاستفادة من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج والحق في الشغل والدعم من طرف السلطات في البحث عن منصب شغل أو التشغيل الذاتي"؟؟ بمعنى أن الدولة ستعمل على المساعدة والتيسير للوصول إلى الحق في التعليم والشغل وليس ضمان الحق فيهما، في حين يتحدث نفس الدستور بكل حزم عن ضمان القانون لحق الملكية وضمان الدولة لحرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر، وكأن البرجوازية المغربية ونقابة الباطرونا ومنظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية هي من كانت تتظاهر في الشوارع المغربية وتواجه القمع بشجاعة للمطالبة بمزيد من الليبرالية وليس أبناء الشعب الكادح الذي كانوا يطالبون بالكرامة والعدالة الاجتماعية.
ليس ما يهمنا هو ما إذا كان رئيس الحكومة سيوقع بالعطف على ظهير تعيين رئيس المحكمة الدستورية أم لا، فذلك ليس بذي أهمية في دستور استبدادي كهذا، خاصة مع الانبطاح والتخاذل الذي تعرفه أحزابنا، ولكن هذا التعديل – أو التدليس ـ يشكل دليلا فاضحا لنظام الاستبداد ولأحزاب الكومبارس، فالنظام المستبد بلغ به الاستهتار بهذا الشعب الطيب حد استخدام قاعدة "القانون لا يحمي المغفلين"، وأحزاب الكومبارس بلغ بها انبطاحها مستوى التطبيل إلى جانب "الشماكرية" ورموز الفساد لدستور صنع على مقاس النظام وبلغت بها الوقاحة حد الصمت المتواطئ أمام التلاعب بإرادة الشعب المغربي عن طريق التدليس. لا يهمنا التعديل ولكن تهمنا دلالاته، فالشعب المغربي وفي طليعته حركة 20 فبراير أعطوا موقفهم الواضح من الاستفتاء ومشروع الدستور شكلا ومضمونا، ونتائج التصويت بنسبها المفضوحة جاءت لتثبت الاستبداد المرفوق بالاستهتار مرة أخرى، والأحزاب فاقدة الشرعية لا يهمها من الأمر سوى البحث في فتات المائدة، ومؤسسات الإمبريالية أبدت مباركتها – وإن بحذر – لمناورات النظام، فهو تلميذ نجيب لصندوق النقد الدولي والبند العالمي وينبغي عليها دعمه حتى آخر رمق.
من أجل مجتمع الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية
لا زالت حركة الشباب المغربي تواصل مسيرتها وإن بتعثر، تواجه الدسائس ومشاعر الإحباط متسلحة بقوة الأمل وحماس مناضليها ومناضلاتها واقتناعهم بنبل قضيتهم. ولا زالت جماهير الشعب المغربي تراقب بحذر تطورات الأحداث، قلبها مع شباب حركة 20 فبراير فهم أبناؤها وبناتها ولكنها لا زالت غير مقتنعة بقدرتها على صنع التغيير، خاصة أمام إفلاس أحزاب المعارضة التاريخية وخيانتها. ولا زال العنفوان الطلابي متخبطا في مشاكله مثخنا بجراحه متحفظا عن المشاركة بقوة في مسيرات الحركة في غياب قوة سياسية طلابية مؤثرة وذات مصداقية تدمج بين النضال الطلابي والشعبي وتقود الحركة الطلابية لتتجاوز أسوار الجامعة. ولا زال المارد العمالي رهين الأغلال البيروقراطية التي تقيد منظماته وتمنعها من التحرك لنصرة أبنائها، متأثرا بتخلف من يحسبون أنفسهم على اليسار الماركسي عن المساهمة في تكسير هذه الأغلال مكتفين بالمشاركة الفردية في الحركة، غير مستوعبين لأهم درس من دروس الثورتين التونسية والمصرية ألا وهو الدور الحاسم للإضرابات العمالية في تونس والإضراب العمالي العام في مصر في قلب ميزان القوى والإطاحة بالاستبداد فيهما، بمبادرة من مناضلين عماليين من القاعدة رغم سطوة البيروقراطية وقوة ارتباطها بالنظام في البلدين. ولا زالت حاجتنا ملحة للحزب السياسي للطبقة العاملة الحامل لمشروع المجتمع الجديد الذي يحقق مطامح كل الفئات الاجتماعية الكادحة، والقادر على دفع الطبقة العاملة إلى أن تعي ذاتها ومصالحها ودورها التاريخي، والذي سيعمل على لف كل القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير في بوتقة واحدة وقوة موحدة هي القادرة وحدها على الإطاحة بالاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي، والبدء في بناء مجتمع المنتجين المتشاركين الأحرار الذي يعمل فيه الفرد من أجل الجماعة، وتعمل فيه الجماعة من أجل الفرد، وحيث تكون فيه الثروات الاجتماعية ملكا للجميع، والحرية حقا للجميع، وحيث يكون الإنسان هدفا وليس وسيلة، ذاك هو المجتمع الذي نطمح إليه ونناضل من أجل تحقيقه.
موقع / المناضل

No comments:
Post a Comment